الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

تركت الصلاة بسبب الوساوس وأشعر بضيق لا يعلم به إلا الله!

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أنا فتاة في الثامنة عشرة من عمري، أكتب سؤالي ودموعي تنهمر من شدة الضيق، فأرجو أن يتسع صدركم لسؤالي، فمنذ عام بدأت أعاني من وساوس تتعلق بالصلاة، والوضوء، والغُسل، والصيام، وسائر العبادات؛ وبسبب شدّة هذه الوساوس، تركت الصلاة وسائر العبادات مدة سبعة أشهر، وما زلت على هذا الحال حتى الآن.

كنت أتابع مع سيدة لها علم عميق بالدين وأحكامه، وكانت كذلك طبيبة نفسية، وكانت تساعدني في أمر الوساوس، لكن عندما تواصلت معها وأنا في أشدّ الحاجة إلى الإجابة، أخبرتني أختها: أنها توفيت -رحمها الله-، كانت تلك الطبيبة أملي الوحيد في تلك الفترة لعلاج الوساوس، ولكنها ماتت، فانقطع الأمل، وظللتُ فترة لا أدري ماذا أفعل، ولا كيف أكمِل العلاج؟

ثم جاءت فترة اختيار الجامعات والتخصص الذي سأدرسه، فقررت أن أختار جامعة بعيدة عن مدينة أهلي، لكي أتمكن من الذهاب إلى طبيبة نفسية وأتلقى العلاج من الوساوس دون علمهم؛ وذلك لأن أهلي يرفضون رفضًا قاطعًا فكرة الذهاب إلى طبيبة من أجل علاج الوساوس، بل يوبخونني ويتهمونني بالجنون والمرض النفسي، ويقولون إن علاج الوساوس هو التجاهل فقط، وحين أخبرهم أنني لا أستطيع التجاهل، يسخرون مني ويستهزئون بي.

لذلك قررت الابتعاد عن أهلي لأتلقى العلاج، وقدّمت على جامعة بعيدة عن مدينة أهلي؛ وذلك لأنهم أصرّوا على التحاقي بالجامعة الموجودة في مدينتنا، فهم لا يقبلون بفكرة ابتعاد الفتاة عن بيت والدها.

ظللت أدعو الله أن يكون نصيبي في الجامعة البعيدة، لكن قدّر الله أن يكون قبولي في الجامعة التي في مدينتنا، وحاليًا لا أعلم كيف سأتلقى العلاج، ولا كيف سأعود إلى الصلاة! لن أتحدث عن شكل الوساوس؛ لأن هذا ليس سؤالي، إنما أتساءل: ماذا فعلت في حياتي حتى يحرمني الله سبحانه وتعالى من الوقوف بين يديه؟ وكلما وجدت طريقًا للعلاج، يغلق في وجهي، وأفقد الأمل.

أفكر في الانتحار جديًا؛ حتى لا أطيل ترك الصلاة، وأقول: لعلّ ربي يرحمني ويغفر لي ما كان من تركي للصلاة؛ بسبب ضعفي وقلة حيلتي، وجهلي بكيفية التعامل مع هذه الوساوس، ولا أظن أن ما أمرّ به يُعد ابتلاءً، لأن الابتلاء يكون لتكفير الذنوب، أو لغير ذلك من الحِكم، وليس سببًا لارتكاب المزيد من الذنوب، كترك الصلاة.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

مرحبًا بك -ابنتنا الكريمة- في استشارات إسلام ويب، ونشكر لك تواصلك معنا، نسأل الله تعالى أن يصرف عنك شر هذه الوساوس، وينجيك منها.

نحن نتفهم -أيتها البنت العزيزة- مدى الضيق الذي تشعرين به، وندرك تمامًا أنه ليس لك خلاص من هذا الضيق، وخروج من هذا العناء الذي أنت فيه، إلا باتباع التوجيهات الشرعية لمدافعة هذه الوساوس، فالوسوسة التي أصبت بها مرض من الأمراض، والمرض ليس عيبًا، فالإنسان قد يُصاب بشيءٍ في بدنه بتقدير الله تعالى عليه، ولكنه مطالب بأن يأخذ بالأسباب لدفع هذا المكروه، فأقدار الله تعالى تدفع بعضها بعضًا، والرسول -صلى الله عليه وسلم- قد قال: "ما أنزل الله داء إلا وأنزل له دواء، فتداووا عباد الله".

وإذا أدركت أن الوسوسة مرض من الأمراض التي يسهل -باذن الله تعالى- مدافعتها، والأخذ بأسباب الشفاء منها، إذا أدركت هذا فينبغي أن تتذكري أن الله -سبحانه وتعالى- يرخص للمريض بأشياء لا يرخص بها للإنسان الصحيح، وهذا كثير في شريعة الإسلام، فقد رخص الله للمريض أن يفطر في نهار رمضان إذا تأذى وتضرر بالصيام، ورخص له في أمور الطهارة، وفي أمور الصلاة بأشياء كثيرة يصعب حصرها الآن.

إذا أدركتِ هذا؛ فينبغي أن تدركي تمامًا أن ما أصبت به من هذه الوساوس، هو نوع من هذه الأمراض، وأن الله -سبحانه وتعالى- قد رخص لك في أمور عبادتك بما يرفع عنك الضيق والحرج والمشقة، وهذا من رحمة الله تعالى وتيسيره لعباده، والله يحب من الإنسان المسلم أن يفعل بالرخص حين يحتاج إليها، ولهذا قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه".

فأبشري برحمة الله تعالى وتيسيره، ومن تيسيره في أمر الموسوس: أن الله -سبحانه وتعالى- شرع له أن يفعل العبادة دون الالتفات للوساوس، بل ينبغي له أن يحقِّر هذه الوساوس، ويهون من شأنها، ويعلم أن الله تعالى يكره المشي وراء هذه الوساوس والتفاعل معها.

فعلاجك الأول هو الإعراض الكامل عن هذه الوساوس، بتحقيرها وعدم التفاعل معها، فينبغي لك أن تتوضئي بشكل عادي كما يتوضأ غيرك من الناس، فإذا داهمتك أفكار وسواسية بأن وضوءك ناقص، وأنك لم تفعلي كذا، لا تلتفتي إليها، واصبري على هذا المنهج واتباع هذا الطريق، اصبري على الإعراض عن هذه الوساوس، وكوني واثقة من أن الله يقبل منك هذه العبادة، ولو حصل فيها نقص؛ لأنك في حالة من المرض والضعف، يرخص الله تعالى فيها ما لا يرخصه لغيرك.

هذا هو العلاج الأول، وليس هناك علاج أمثل ولا أحسن من هذا، وبهذا ترحمين نفسك وتخلصينها من عناء هذه الوساوس، وبالإضافة إلى هذا الدواء؛ هناك أدوية حسية ينبغي لك أن تراجعي فيها الأطباء بقدر استطاعتك، وسنحيل هذا السؤال إلى الأفاضل الأطباء من المستشارين في موقعنا، ليفيدوك -بإذن الله تعالى- بما ينفعك من الأدوية.

وأمَّا ما ذكرتِ في آخر سؤالك من أنك تفكرين في الانتحار جديًا، فهذا أخطر ما في رسالتك، ونحن نذكرك بأن الانتحار ليس انتقالًا من عناء إلى راحة، إنما هو انتقال من عناء بسيط إلى عناء شديد طويل، فالمنتحر في سخط الله تعالى، ومهدد بأنه مخلد في نار جهنم، يتعذب بنفس الطريقة التي قتل بها نفسه، فأي عاقل يختار لنفسه أن ينتقل من معاناة بسيطة، هو مأجور عليها ومثاب على الصبر فيها، إلى مشقة أشد وعناء طويل؛ الله تعالى ساخط عليه فيه؟!

راجعي نفسك، واحذري أن يجرك الشيطان إلى اتخاذ قرار مثل هذا، واعلمي أن الله تعالى رحيم بعباده، لطيف بهم، وأنه أرحم بنا من أنفسنا، فما يقدره الله تعالى علينا من المكاره والابتلاءات يقدره علينا ليثيبنا على ما يصيبنا، فأحسني ظنك بالله تعالى، واعلمي أن هذا البلاء له زمن ينتهي عنده، زمن قصير -بإذن الله- ينتهي عنده، تخرجين منه بالأجر والمثوبة وتكفير الذنوب والسيئات.

نسأل الله أن يمن عليك بعاجل العافية والشفاء، وأن يصرف عنك كل سوء ومكروه.
———————————————————
انتهت إجابة: د. أحمد سعيد الفودعي … مستشار الشؤون الأسرية والتربوية.
تليها إجابة: د. محمد عبدالعليم … استشاري أول الطب النفسي وطب الإدمان.
———————————————————

نرحب بك في شبكة الإسلامية، وأنت لديك استشارة برقم (2559585)، أجاب عليها الأخ الدكتور/ أحمد سامر منذ أربعة أو خمسة أيام، وها أنت الآن تتقدمين باستشارتك هذه، والتي في جُلها تدور حول الوساوس القهرية، طبعًا يجب أن تأخذي بالنصائح التي أسداها لك الدكتور/ أحمد سامر، ونسأل الله أن ينفعك بها.

أمَّا بالنسبة للوسوسة؛ فأقول لك: هوني عليك، الوسواس ظاهرة تصيب الكثير جدًّا من اليافعين ومن المراهقين، وغالبًا ما تكون عابرة، لكن في بعض الأحيان قد تستمر وتتطلب العلاج اللازم، وانزعاجك مما حدث لك وطرحك بعض الأسئلة الشرعية، أجاب عليها الشيخ الدكتور/ أحمد سعيد الفودعي.

وأنا أقول لك: لا تستنكري ما حدث لك، فحياة المسلم قد تكون فيها الكثير من الابتلاءات، وإن كنت تعتقدين أن هذا ليس بابتلاء، والإنسان يصاب بمثل هذه الأشياء، -والحمد لله- علاجها متاح بصورة سهلة جدًّا، وأعتقد أن هذه الأفكار التي طرأت عليك، الأسئلة التي ذكرتها من أجل المعرفة وليس للاعتراض، وكذلك الحديث عن الانتحار، أعتقد أنها ناتجة عن ما نسميه بالحوار الوسواسي.

هناك بعض الناس يلجؤون إلى الحوار الوسواسي، ويضيعون الوقت في تحليل الفكر الوسواسي؛ لأن الوسواس يستدرجهم حقيقة، وهذه إحدى الإشكالات؛ لذا نحن نقول للناس: حقروا الوسواس، لا تناقشوا الوسواس، لا تحللوا الوسواس، اصرفوا انتباهكم عن الوسواس إلى أشياء أخرى، ونفِّروا ما بينكم وبين الوسواس.

هذه أسس علاجية سلوكية بسيطة جدًّا: الوساوس الدينية منتشرة وموجودة، وأتفق معك أنها مؤلمة لنفس المسلم، لكن صاحب الوسواس -إن شاء الله- لا حرج عليه، اكتبي هذه الوساوس في مجموعات، ابدئي بأضعفها، وانتهي بأشدِّها، قولي مثلاً: يكون لدي خمس مجموعات من الوساوس، وطبقي على كل مجموعة ثلاثة تمارين:

التمرين الأول نسميه (التحقير والتجاهل): وهذا يتطلب أن تجلسي في داخل الغرفة، في مكان هادئ جدًّا، وتخاطبي الوسواس مباشرة دون تحليله أو الإسراف في التفكير فيه، وخاطبيه قائلة: أنت وسواس حقير، وتكرري هذا عدة مرات: أنتَ تحت قدمي، أنا لن أهتم بك أبدًا.

ثم انتقلي مباشرة للتمرين الثاني، والذي نسميه (صرف الانتباه): وذلك من خلال الإتيان بفكرة جميلة، فكرة عظيمة، تذكري شيئًا جميلًا سيكون في مستقبل حياتك، مثلًا: يوم تخرجك أو يوم زواجك، أي أفكار إيجابية اجعليها تستولي على الحيز الأول في سلم أفكارك، وهذا -إن شاء الله- يزيح الفكر الوسواسي.

أمَّا التمرين الثالث نسميه (التنفير): وهذا التمرين مبدؤه هو أن تربطي الفكرة أو الفعل الوسواسي بشيء مُنفِّر أو مؤلم للنفس، مثلًا: فكِّري في الفكرة الوسواسية -الفكرة الأولى-، وقومي بالضرب على يدك بقوة وشدة، الهدف هو أن تحسّي بالألم، وأن تربطي الألم هذا بالفكرة الوسواسية، كرري هذا 20 مرة متتالية.

إذًا: لديك ثلاثة تمارين متميزة، طبقيها على كل مجموعات أفكارك الوسواسية، وهذه التمارين تستغرق من ربع ساعة إلى نصف ساعة، ويجب أن تكوني في حالة هدوء، داخل الغرفة، وتعتبري هذه الفترة فترة علاجية حقيقية.

وطبعًا بعد تطبيق التمارين على الفكرة الأولى، تنتقلين إلى الفكرة الثانية بنفس الطريقة، ثم التي تليها من أفكار أخرى وسواسية.

بصفة عامة: أحسني إدارة وقتك، تجنبي السهر، ومارسي تمارين الاسترخاء، وهناك برامج كثيرة على اليوتيوب توضح كيفية ممارسة هذه التمارين.

البشرى الأخرى التي أحملها لك هي: أن الأدوية ممتازة جدًّا لعلاج الوساوس، بجانب العلاج السلوكي والإرشاد العام، أقول لك: تناولي دواء يسمى (سيرترالين - Sertraline)، هذا دواء فعَّال جدًّا، يمكن للطبيب العام وصفه لك، وإذا رفض أهلك الذهاب إلى طبيبة نفسية، قد يعطيه لك الصيدلي، فهو سليم جدًّا، لكن حاولي أن تقنعي أهلك.

السيرترالين والذي يسمى (مودابكس - Moodapex) أو (لوسترال - Lustral)، ابدئي في تناوله بجرعة نصف حبة، أي 25 ملغ يوميًا لمدة عشرة أيام، ثم حبة كاملة يوميًا لمدة شهر، ثم حبتين يوميًا لمدة ستة أشهر، ثم حبة واحدة يوميًا لمدة ثلاثة أشهر، ثم نصف حبة يوميًا لمدة شهر، ثم توقفي عن تناوله.

بارك الله فيك، وجزاك الله خيرًا، وبالله التوفيق والسداد.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً