
الإيمان بالجنة والنار، وأن الله تعالى خلق لهما أهلاً، فمَنْ شاء أدخله الجنة فضلاً منه، ومَنْ شاء أدخله النار عدلاً منه، وما أعَدَّه الله عز وجل لأهل الجنة مِنْ نعيم، وما أعَدَّه لأهل النار مِن عذاب، يدخل ضمن الإيمان باليوم الآخر الذي هو ركن من أركان الإيمان. قال الإمام الطحاوي: "والجنة والنار مخلوقتان، لا تفنيان أبداً ولا تبيدان، فإن الله تعالى: خلق الجنة والنار قبل الخَلق، وخلق لهما أهلاً، فمَن شاء منهم إلى الجنة فضلاً منه، ومَنْ شاء منهم إلى النار عدلاً منه".
والجنة هي الجزاء العظيم، والثواب الجزيل، الذي أعده الله تعالى لأوليائه وأهل طاعته، وفي الجنة نعيم لا يُعَكِّر صفوه كَدر، وليس له في الدنيا نظير ولا شبيه. وقد جاء وصف الجنة في الكثير من الآيات القرآنية، ومن ذلك قول الله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا}(الرعد:35)، وقوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ}(محمد:15).. والنبيُّ صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما كان يُخْبِر عنِ الجنَّة بما يُشوِّقُ النُّفوسَ إليها، ويَشحَذُ الهِمَمَ لطلبها والسعي لها. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل: أعددْتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بَشر، مصداق ذلك في كتاب الله: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(السجدة:17)) رواه البخاري. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يُنادِي مُنادٍ (عَلى أَهْل الجنَّة): إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تنعموا فلا تبْأسوا أبداً، فذلك قوله عز وجل: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}(الأعراف:43)) رواه مسلم.
وللجنة أبواب ثمانية. عن عُبَادَة بن الصَّامِت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ قال: أَشْهَدُ أَنْ لا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عبده ورسوله، وَأَنَّ عِيسَى عَبْد الله، وَابْنُ أَمَتِه، وَكَلِمَتُه أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ منه، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ، وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللهُ مِنْ أَيِّ أَبْوَاب الْجَنَّة الثَّمَانية شاء) رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَن أنْفَقَ زَوْجَيْنِ مِن شيءٍ مِنَ الأشْياءِ في سَبيلِ االله، دُعِيَ مِن أبْواب - يَعْنِي الجَنَّةَ، - يا عَبْدَ اللَّهِ هذا خَيْرٌ، فمَن كان مِن أهْلِ الصَّلاةِ دُعِيَ مِن بابِ الصَّلاةِ، ومَن كان مِن أهْلِ الجِهاد دُعِيَ مِن باب الجِهاد، ومَن كان مِن أهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِن باب الصَّدقة، ومَن كان مِن أهْلِ الصِّيامِ دُعِيَ مِن بابِ الصِّيام، وبابِ الرَّيّان، فقال أبو بكر: هلْ يُدْعَى مِنْها كُلِّها أحَدٌ يا رَسول االله؟ قال: نَعَمْ، وأَرْجُو أنْ تَكُونَ منهمْ يا أبا بَكْر) رواه البخاري. قال ابن حجر: "ويُحْتَمَل أن يكون المراد بالأبواب التي يًدْعى منها أبواب مِنْ داخل أبواب الجنة الأصلية، لأن الأعمال الصالحة أكثر عددا من ثمانية والله أعلم.. وفي الحديث إشعار بقلة من يُدْعى من تلك الأبواب كلها.. وفيه إشارة إلى أن المراد ما يتطوع به من الأعمال المذكورة، لا واجباتها، لكثرة مَنْ يجتمع له العمل بالواجبات كلها، بخلاف التطوعات، فقَلّ من يجتمع له العمل بجميع أنواع التطوعات. ثم مَنْ يجتمع له ذلك إنما يُدْعى من جميع الأبواب: على سبيل التكريم له، وإلا فدخوله إنما يكون من باب واحد، ولعله باب العمل الذي يكون أغلب عليه، والله أعلم".
أسماء الجنة:
الجنة لها أسماء كثيرة، قال ابن القيم في كتابه "حادي الأرواح": "ولها (الجنة) عدة أسماء باعتبار صفاتها، ومُسمَّاها واحد باعتبار الذات، فهي مترادفة من هذا الوجه، وتختلف باعتبار الصفات، فهي متباينة من هذا الوجه، وهكذا أسماء الرب تعالى، وأسماء كتابه، وأسماء رسوله، وأسماء اليوم الآخر، وأسماء النار". وقال المناوي في "فيض القدير": "وقال الزمخشري: الجنة اسم لدار الثواب كلها، وهي مشتملة على جنات كثيرة مرتبة مراتب على حسب استحقاق العاملين، لكل طبقة منهم جنة منها. قال ابن القيم: ولها سبعة عشر اسما وكثرة الأسماء آية شرف المُسَمَّى، أولها هذا اللفظ العام (الجنة) المتناول لتلك الدار وما اشتملت عليه من أنواع النعيم، والبهجة والسرور، وقرة العين، ثم دار السلام: أي السلامة مِن كل بلية، ودار الله، ودار الخلد ودار الإقامة، وجنة المأوى، وجنة عدن، والفردوس، وهو يطلق تارة على جميع الجنان، وأخرى على أعلاها.. وغير ذلك مما ورد به القرآن". وقال القرطبي في "التذكرة": "والجنة اسم الجنس، فمرة يقال: جنة، ومرة يقال: جنات، وكذلك جنة عدن، وجنات عدن، لأن العدن الإقامة، وكلها دار إقامة، كما أن كلها مأوى المؤمنين، وكذلك دار الخلد، ودار السلام، لأن جميعها للخلود والسلامة من كل خوف وحزن. وكذلك جنات النعيم، وجنة النعيم، لأن كلها مشحونة بأصناف النعيم".
ومن أسماء الجنة:
1 ـ الجنة: وهي أشهر أسماء الجنة، والاسم العام المتناول لتلك الدار. والجنة: هي الحديقة ذات الشجر والنخل، وجمعها جنات، والجنة كل بستان يستر بأشجاره الأرض، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ}(سبأ:15). وقد ذُكِر هذا الاسم في الكثير من الآيات القرآنية، قال الله تعالى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا}(مريم:63). قال ابن القيم: "الجنة، وهو الاسم العام المتناول لتلك الدار، وما اشتملت عليه من أنواع النعيم، واللذَّة، والبهجة، والسرور، وقرّة العين".
2 ـ جنات عدن: قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ}(التوبة:72). قال ابن تيمية: "فإن جنة عدن خلقها الله تعالى وغرسها بيده، ولم يطلع على ما فيها مقربًا، ولا نبيًا مرسلاً، وقال لها: تكلمي، فقالت: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}(المؤمنون:1) جاء ذلك في أحاديث عديدة".
3 ـ جنات النعيم: قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}(يونس:9). وسُميت بذلك لما فيها من النعيم المقيم الكريم، لأنه يتنعم بما فيها من المأكول، والمشروب، والملبوس، والصور، والرائحة الطيبة، والمنظر البهيج، والمساكن الواسعة، وغير ذلك من النعيم الظاهر والباطن، الحسي والجسدي.
4 ـ جنات الفردوس: قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً}(الكهف:107).. والفردوس في اللغة: البستان، والفراديس البساتين. والفردوس يطلق على اسم جميع الجنة، ويقال على أفضلها وأعلاها أيضًا، كأنه أحق بهذا الاسم من غيره من الجنات. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة) رواه البخاري. قال ابن القيم: "أنزه الموجودات، وأظهرها، وأنورها، وأشرفها، وأعلاها، ذاتًا وقدرًا، وأوسطها عرش الرحمن عز وجل، وكلما كان أقرب إلى العرش كان أنور وأظهر وأشرف، مما بُعد عنه، ولهذا كانت جنة الفردوس أعلى الجنان، وأشرفها وأنورها وأجلها لقربها من العرش".
5 ـ جنة الخلد: قال الله تعالى: {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيراً}(الفرقان:15).. وسُميت بذلك لخلود أهلها فيها، فإن أهلها لا يظعنون عنها أبدًا، ولا ينتقلون، فالخلد هو دوام البقاء، قال الله تعالى: {وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ}(الحجر:48).
6 ـ الحُسْنى: قال الله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}(يونس: 26). وقال صلى الله عليه وسلم: (الحُسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه ربهم) أخرجه الطبري في التفسير، واللالكائي في "شرح أصول الاعتقاد".
7 ـ دار السلام: قال الله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ}(يونس:25). قال السعدي: "وسمى الله الجنة "دار السلام" لسلامتها من جميع الآفات والنقائص، وذلك لكمال نعيمها وتمامه وبقائه، وحسنه من كل وجه". وقال ابن القيم: "وهي جديرة بهذا الاسم لسلامتها مِن كل بلية وآفة، فإن الله هو السلام، وهي داره، فمن أسمائه الحسنى السلام. فالله سبحانه سلم هذه الدار، وسلم أهلها من كل نكبة وداهية، وتحيتهم فيها سلام، والرب تعالى سلم عليهم من فوقهم، والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم، وكلامهم كله فيها سلام، ولا يسمعون فيها لغوا إلا سلاماً".
8 ـ الغُرفة: قال الله تعالى: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً}(الفرقان:75). قال ابن كثير: "لما ذكر تعالى من أوصاف عباده المؤمنين ما ذكر من الصفات الجميلة، والأفعال والأقوال الجليلة قال بعد ذلك كله: {أُولَئِكَ} أي: المتصفون بهذه {يُجْزَوْنَ} أي: يوم القيامة {الْغُرْفَةَ} وهي الجنة".
والجنة كما لها أبواب وأسماء، فإن لها درجات ومنازل. عن أنس بْن مالك رضي الله عنه أَنَّ أُمَّ الرُّبَيِّع بِنْتَ الْبَرَاء وهِي أُم حارِثةَ بْنِ سُرَاقَة أَتَت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فقالت: (يَا نَبِيَّ اللَّه أَلا تُحَدِّثُنِي عَنْ حارِثة؟ وكان قُتِل يوْم بَدْرٍ أَصَابه سَهْمٌ غَرْب (لم يُعرف مَصْدَرُه)، فَإِنْ كان في الْجَنَّةِ صَبَرْتُ، وَإِنْ كان غَيْرَ ذَلِك اجْتَهَدْتُ عَلَيْه في الْبُكاء؟ فقال صلى الله عليه وسلم: يَا أُمَّ حَارِثة إِنَّهَا جِنَانٌ في الْجَنَّة ـ وفي رواية إنها جنان كثيرة ـ، وإِنَّ ابْنَكِ أَصَاب الْفِرْدَوْسَ الأَعْلى) رواه البخاري. قال الطيبي: "والمراد بالجِنان الدرجات فيها، لما ورد (في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها)". وقال الهروي: "(جِنانٌ في الجنة): التنوين للتعظيم، والمراد بها درجات فيها". وقال القسطلاني: "(إنها جِنان) أي درجات". وقال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى": "والجنَّة درجات متفاضلة تفاضلاً عظيماً، وأولياء الله المؤمنون المتقون في تلك الدرجات بحسب إيمانهم وتقواهم".