الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالطبع على القلب معناه الختم عليه، حتى لا يهتدي للصواب، ولا يفهمه، قال ابن جرير في تفسيره: وأصلُ الختم: الطَّبْع. والخاتَم هو الطَّابع. يقال منه: ختمتُ الكتابَ، إذا طبَعْتَه...قال مجاهد: نُبِّئت أنِّ الذنوبَ على القلب تحُفّ به من نواحيه حتى تلتقي عليه، فالتقاؤُها عليه الطَّبعُ، والطبعُ: الختم. انتهى.
وقال السيوطي في تنوير الحوالك: قال الباجي: معنى الطبع على القلب: أن يُجعل بمنزلة المختوم عليه، لا يصل إليه شيء من الخير. انتهى.
ولكن لا يعني ذلك أن من طبع على قلبه لا يقدر على التوبة، ولا يمكنه ذلك، بل الهداية والتوبة ممكنة، إن وفقه الله وفتح قلبه بعد تلك الغواية.
قال ابن القيم في شفاء العليل: ومما ينبغي أن يعلم: أنه لا يمتنع مع الطبع والختم والقفل حصول الإيمان؛ بأن يفَك الذي ختم على القلب وطبع عليه وضرب عليه القفلَ، ذلك الختمَ والطابع والقفل، ويهديه بعد ضلاله، ويعلمه بعد جهله، ويرشده بعد غيه، ويفتح قفل قلبه بمفاتيح توفيقه التي هي بيده، حتى لو كتب على جبينه الشقاوة والكفر: لم يمتنع أن يمحوها ويكتب عليه السعادة والإيمان... فلو أن المطبوع على قلبه، المختوم عليه، كره ذلك ورغب إلى الله في فك ذلك عنه، وفعل مقدوره: لكان هداه أقرب شيء إليه، ولكن إذا استحكم الطبع والختم حال بينه وبين كراهة ذلك، وسؤال الرب فكه وفتح قلبه. انتهى.
ونحن نبشرك بأن باب التوبة مفتوح، وأن الله تعالى بمنّه وكرمه يفرح بتوبة عباده، وإنابتهم إليه، ففي حديث أبي هريرة عند البخاري: لله أفرح بتوبة عبده من رجل نزل منزلا وبه مهلكة، ومعه راحلته، عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومة، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته، حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش، أو ما شاء الله، قال: أرجع إلى مكاني، فرجع فنام نومة، ثم رفع رأسه، فإذا راحلته عنده.
واعلم أنه لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم رجعت عنها بصدق قبل الله توبتك، وغفر ذنبك مهما كان، قال سبحانه: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53]، فقال: أسرفوا ولم يقل: أذنبوا، يعني بالغوا وأكثروا من الذنوب، فهو سبحانه يغفر الذنوب جميعًا، وأعظمها الشرك، فيغفره إذا رجع عنه العبد، وتاب، قال سبحانه: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا. [الفرقان: 68-70].
وفي الحديث القدسي الذي أخرجه أحمد والترمذي، وحسنه: ابن آدم، إن تلقني بقراب الأرض خطايا لقيتك بقرابها مغفرة بعد أن لا تشرك بي شيئًا، ابن آدم إنك إن تذنب حتى يبلغ ذنبك عنان السماء، ثم تستغفرني أغفر لك ولا أبالي.
فإذن لا نظن ذنوبك أعظم من ذنوب من قتل 99 إنساناً، وأتم المائة بقتل ذلك العابد الذي أفتاه بأنه لا توبة له، ولما هدي للتوبة، ودل عليها، وأنها ممكنة، صدق في التوبة، وعزم على مفارقة مكان الذنب، فتاب الله عليه. والحديث عند أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني.
ولا شك أن ما عندك من اليقين في أن الله يطبع على قلب العبد بكثرة الذنوب، هو دليل إيمانك بالله تعالى، ثم إن خوفك منه، ومحافظتك على الصلاة والقرآن والأذكار والاستغفار هي سهام قاتلة أصبت بها الشيطان، فلما عجز عنك وفشل في صدك عنها مباشرة، أراد أن يأتيك من باب آخر، ألا وهو باب القنوط واليأس من رحمة الله، وهو باب خطير لو نجح فيه الشيطان، كما قال سبحانه: إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف: 87]؛ لأنك لو يئست من رحمة الله تركت كل تلك العبادة، فيفوز الشيطان في معركته معك أعظم الفوز، فكن على حذر من الشيطان، وعلى يقين من قبول الله توبتك إن صدقت فيها، بل وفرحه بها.
والله أعلم.