
العلامة الأولى: مرض القلوب:
فقلوب أهل النفاق مسكونة بالريب والشك، وهي قابلة لكل فتنة، وفي صحيح مسلم عن حذيفة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها، نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادا كالكوز، مُجَخِّيًا لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا، إلا ما أشرب من هواه».
ففي شعب الإيمان عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه قال: «الإيمان يبدأ نقطة بيضاء في القلب، كلما ازداد الإيمان ازدادت بياضا حتى يَبْيضَّ القلب كله، والنفاق يبدأ نقطة سوداء في القلب، كلما ازداد النفاق ازدادت سوادا، حتى يسْودَّ القلب كله، والذي نفسي بيده لو شققتم عن قلب مؤمن لوجدتموه أبيض، ولو شققتم عن قلب منافق لوجدتموه أسود».
وفي المعجم الصغير للطبراني عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القلوب أربعة: فقلب أَجْرَدُ فيه مثل السراج يُزْهِرُ، وذلك قلب المؤمن وسراجه فيه نوره، وقلب أغلف مربوط على غلافه فذلك قلب الكافر، وقلب منكوس وذلك قلب المنافق، عرّفّ ثم أنكر، وقلب مُصِحٌّ، وذلك قلب فيه إيمان ونفاق، فمثل الإيمان فيه كمثل الْبَقْلَةِ يَمُدُّهَا ماء طيب، ومثل النفاق كمثل الْقُرْحَةِ يمدها القيح والدم، فأيُّ الْمَدَّتَيْنِ غَلَبَتْ على صاحبتها غلبتْ عليه».
فالنفاق بيت الأمراض ومسكن الأدواء، يتولد منه أنواع من أمراض القلوب القاتلة، كالغفلة، والرياء، وبغض الإسلام وأهله، وكراهية الحق، وهوى الباطل، وإدمان الشهوات، وسوء الظن بالله، واليأس من نصره، والتكذيب بوعده، والحسد والكبر، والعجب بالنفس، وغيرها من الأمراض التي تكون في قلب المنافق، ولا تزال تستحوذ على قلبه حتى يكون أشد على الإسلام وأهله من اليهود والنصارى، وهذا الذي يفسر لنا اهتمام القرآن بفضحهم وتحذير المسلمين من كيدهم ومكرهم، قال تعالى في سورة المنافقين: (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) سورة المنافقين: 4.
العلامة الثانية: الأمن من النفاق:
من شأن المؤمن الحق الخوفُ على إيمانه من أن يتسلل إليه النفاق، أو أن يتصف بصفات أهله، لما يعلم من خطر ذلك وقد روت لنا السنة النبوية جانبا من خوف الصحابة من النفاق، وهم خير الناس بعد الأنبياء، ومع ذلك يخافون، وفي صحيح مسلم قال ابن أبي مليكة: "أدركتُ ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل"، .يعني: كل منهم يعتقد أنه ناقص الإيمان، وأنه لا يصل إلى ما وصل إليه جبريل وميكائيل. ويذكر عن الحسن: " ما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق".
وروى الفريابي في صفة المنافق وذم المنافقين عن الحسن قوله: والله ما أصبح ولا أمسى مؤمن إلا وهو يخاف النفاق على نفسه.
وفي مصنف ابن أبي شيبة عن زيد بن وهب، قال: مات رجل من المنافقين فلم يصل عليه حذيفة، فقال له عمر: أمن القوم هو؟ قال: «نعم»، فقال له عمر: بالله، منهم أنا؟ قال: «لا، ولن أخبر به أحدا بعدك».
وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعائه التعوذ بالله من النفاق، ففي صحيح ابن حبان عن أنس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، يقول: «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والبخل والهرم، والقسوة والغفلة، والذلة والمسكنة، وأعوذ بك من الفقر والكفر، والشرك والنفاق، والسمعة والرياء، وأعوذ بك من الصمم والبكم، والجنون، والبرص والجذام، وسييء الأسقام».
فالخوف من النفاق علامة المؤمن، والأمن منه علامة النفاق، فقد روى الفريابي في صفة النفاق عن جبير بن نفير، أنه سمع أبا الدرداء، وهو في آخر صلاته وقد فرغ من التشهد يتعوذ بالله من النفاق فأكثر من التعوذ منه قال: فقال جبير: وما لك يا أبا الدرداء أنت والنفاق؟ فقال: "دعنا عنك فوالله إن الرجل ليتقلب عن دينه في الساعة الواحدة فيخلع منه".
العلامة الثالثة: محبة الكفار وبغض المسلمين:
النفاق يعمي بصيرة الإنسان، وتنتكس معه الفطرة السوية، فلا يزال ينزل في دركات الفتنة حتى يغدو المسلم مبغوضا إليه، وتتعاظم فتنته بأعداء الله حتى يحبهم ويغتر بما هم عليه من الكفر والضلال، فينصرهم ويعاونهم على المسلمين.
ففي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار».
وفي الصحيحين أيضا عن البراء رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله».
وفي حلية الأولياء عن الأعمش، قال: سمعت خيثمة، يقول: «والله ما أحب مؤمنٌ منافقاً قط».
وفي سنن أبي داود عن أسامة بن زيد، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود عبد الله بن أُبيّ في مرضه الذي مات فيه، فلما دخل عليه عرف فيه الموت، قال: «قد كنت أنهاك عن حب يهود» قال: فقد أبغضهم سعد بن زرارة فمه!
ولا يخفى على قارئ السيرة النبوية تلك العلاقة التي كانت تربط المنافقين باليهود، وما أوجبته بينهم من النصرة والمعاونة على المسلمين، وقد جمعهم على ذلك بغضُهم للنبي صلى الله عليه وسلم وبغضهم للمؤمنين، فكانوا يدا واحدة على الإسلام والكيد لأهله، ولم تزل هذه سيماهم وحالهم عبر التاريخ، والواقع خير شاهد على تلك العلاقة الآثمة.
وقد كان بغض المنافقين لرسول الله صلى الله عليه وسلم اعتقاداً وعملاً، حيث آذوه في عرضه، وفي أصحابه، بل حاولوا إيذاء شخصه صلى الله عليه وسلم، فأجمعوا قتله، كما في المعجم الكبير للطبراني عن مجالد، عن الشعبي، قال: قلنا: كيف أصاب حذيفة ما لم يصب أبو بكر ولا عمر؟ قال صلة بن زفر: قد والله سألنا حذيفة عن ذلك، فقال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير ذات ليلة، فأدلجنا دُلْجَةً، فنعس رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته، فقال أناس: لو دفعناه الساعة فوقع فاندقت عنقه استرحنا منه. فلما سمعتُهم تقدمتُهم، فسِرتُ بينه وبينهم، فجعلت أقرأ سورة من القرآن، فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «من هذا؟» قلت: حذيفة يا رسول الله. قال: «ادْنُ» فدنوت، فقال: «ما سمعت هؤلاء خلفك ما قالوا؟» قلت: بلى يا رسول الله؛ ولذلك سرتُ بينك وبينهم. قال: «أما إنهم منافقون، فلان وفلان وفلان».
فهذه ثلاث علامات من علامات المنافقين، وعلاماتهم كثيرة، وهي علامات كاشفة عن أحوالهم الباطنة التي يحاولون إخفاءها خوفاً من الإسلام وأهله، وحرصا على مكتسباتهم وجمهورهم المخدوع بهم من عوام المسلمين، غير أنهم لا يستطيعون إخفاء ما في قلوبهم، وقد تكفل الله تعالى بإظهار حقيقتهم، وكشف مستورهم بما يجري على ألسنتهم من تصريحات وعبارات، قال تعالى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ، وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ) سورة محمد: 29، 30.